فصل: تفسير الآية رقم (61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (61):

{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بما كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)}
{وَإذَا جَاءُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا} نزلت كما قال قتادة والسدى في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظهرون له الإيمان والرضا بما جاء به نفاقًا، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والجمع للتعظيم، أو له عليه الصلاة وللسلام مع من عنده من أصحابه رضي الله تعالى عنهم أي إذا جاءوكم أظهروا لكم الإسلام. {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم ينتفعوا بحضورهم بين يديك ولم يؤثر فيهم ما سمعوا منك، والجملتان في موضع الحال من ضمير {قَالُواْ} على الأظهر. وجوّز أبو البقاء أن يكونا حالين من الضمير في {مِنَ}، وباء بالكفر، و{بِهِ} للملابسة، والجار والمجرور حالان من فاعل دخلوا وخرجوا والواو الداخلة على الجملة الاسمية الحالية للحال، ومن منع تعدد الجملة الحالية من غير عطف يقول: إنها عاطفة والمعطوف على الحال حال أيضًا، ودخول {قَدْ} في الجملة الحالية الماضوية كما قال العلامة الثاني لتقرب الماضي إلى الحال فتكسر سورة استبعاد ما بين الماضي والحال في الجملة، وإلا فقد إنما تقرب إلى حال التكلم، وهذا إشارة إلى ما أوضحه السيد السند في «حاشية المتوسط» من أنه قيل: إن الماضي إنما يدل على انقضاء زمان قبل زمان التكلم، والحال الذي يبين هيئة الفاعل أو المفعول قيد لعامله، فإن كان العامل ماضيًا كان الحال أيضًا ماضيًا بحسب المعنى، وإن كان حالًا كان حالًا، وإن كان مستقبلًا كان مستقبلًا، فما ذكروه غلط نشأ من اشتراك لفظ الحال بين الزمان الحاضر وهو الذي يقابل الماضي وبين ما يبين الحالة المذكورة، ثم قال: ويمكن أن يقال: إن الفعل إذا وقع قيدًا لشيء يعتبر كونه ماضيًا أو حالًا أو مستقبلًا بالنظر إلى ذلك المقيد، فإذا قيل: جاءني زيد ركب يفهم منه أن الركوب كان متقدمًا على المجيء فلابد من قد حتى يقربه إلى زمان المجيء فيقارنه، وذكر نحو ذلك العلامة الكافيجي في «شرح القواعد»، ثم قال: وأما الاعتذار بأن تصدير الماضي المثبت بلفظة قد لمجرد استحسان لفظي فإنما هو تسليم لذلك الاعتراض فليس قبول ولا مرضي انتهى.
ولذلك زيادة تفصيل في محله، وقد ذكر لها معنى آخر في الآية غير التقريب وهو التوقع فتفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوقع دخول أولئك الفجرة وخروجهم من خضيلة حضرته أفرغ من يد تفت البر مع لم يعلق بهم شيء مما سمعوا من تذكيره عليه الصلاة والسلام بآيات الله عز وجل لظنه بما يرى من الأمارات اللائحة عليهم نفاقهم الراسخ، ولذلك قال سبحانه: {والله أَعْلَمُ بما كَانُواْ يَكْتُمُونَ} وفيه من الوعيد ما لا يخفى، وفي الكشاف «إن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعًا لإظهار الله تعالى ما كتموه، فدخل حرف التوقع لذلك»، واعترضه الطيبي بأن قد موضوعة لتوقع مدخولها وهو هاهنا عين النفاق، فكيف يقال: لإظهار الله تعالى ما كتموه؟ وأجاب بأنه لا شك أن المتوقع ينبغي أن لا يكون حاصلًا، وكونهم منافقين كان معلومًا عنده صلوات الله تعالى وسلامه عليه بدليل قوله: «إن أمارات النفاق» إلخ فيجب المصير إلى المجاز والقول بإظهار الله تعالى ما كتموه، وقال في الكشف معرضًا به: إن الدخول في الكفر والخروج به إظهار له، فلذلك أدخل عليه حرف التوقع لا أنه عين النفاق ليحتاج إلى تجوز في رجوع التوقع إلى إظهاره، وإن ظهور أماراته غير إظهار الله تعالى إياه بإخباره سبحانه عنهم وأنهم متلبسون بالكفر متقلبون فيه خروجًا ودخولًا انتهى فليتأمل، وإنما لم يقل سبحانه: وقد خرجوا على طرز الجملة الأولى إفادة لتأكيد الكفر حال الخروج لأنه خلاف الظاهر إذ كان الظاهر بعد تنور أبصارهم برؤية مطلع شمس الرسالة وتشنف أسماعهم بلآلئ كلمات بحر البسالة عليه الصلاة والسلام أن يرجعوا عما هم عليه من الغواية ويحلوا جياد قلوبهم العاطلة عن حلي الهداية، وأيضًا إنهم إذا سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم وأنكروه ازداد كفرهم وتضاعف ضلالهم.

.تفسير الآية رقم (62):

{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)}
{وترى كَثِيرًا مّنْهُمْ} أي من أولئك اليهود كما روي عن ابن زيد والخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب، والرؤية بصرية، وقيل: قلبية، وقوله تعالى: {يسارعون فِيهِمْ الإثم والعدوان} في موضع الحال من {كَثِيرًا} الموصوف بالجار والمجرور، وقيل: مفعول ثان لترى والمسارعة مبادرة الشيء بسرعة، وإيثار {فِى} على إلى للإشارة إلى تمكنهم فيما يسارعون إليه تمكن المظروف في ظرفه وإحاطته بأعمالهم، وقد مرت الإشارة إلى ذلك. والمراد بالإثم الحرام، وقيل: الكذب مطلقًا، وقيل: الكذب بقولهم: {مِنَ} [المائدة: 61] لأنه إما إخبار أو إنشاء متضمن الإخبار بحصول صفة الإيمان لهم، واستدل على التخصيص بقوله تعالى الآتي: {عَن قَوْلِهِمُ الإثم} [المائدة: 63]، وأنت تعلم أنه لا يقتضيه، وقيل: المراد به الكفر، وروي ذلك عن السدي، ولعل الداعي لتخصيصه به كونه الفرد الكامل، والمراد من العدوان: الظلم أو مجاوزة الحد في المعاصي، وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعدى إلى غيرهم، والكلام مسوق لوصفهم بسوء الأعمال بعد وصفهم لسوء الاعتقاد {وَأَكْلِهِمُ السحت} أي الحرام مطلقًا، وقال الحسن: الرشوة في الحكم والتنصيص على ذلك بالذكر مع اندراجه في المتقدم للمبالغة في التقبيح.
{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لبئس شيئًا يعملونه هذه الأمور فما نكرة موصوفة وقعت تمييزًا لضمير الفاعل المستتر في بئس والمخصوص بالذم محذوف كما أشرنا إليه، وجوز جعل {مَا} موصولة فاعل بئس والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار.

.تفسير الآية رقم (63):

{لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)}
{لَوْلاَ ينهاهم الربانيون والاحبار} قال الحسن: الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة، وقال غيره: كلهم في اليهود لأنه يتصل بذكرهم، و{لَوْلاَ} الداخلة على المضارع كما قرره ابن الحاجب وغيره للتحضيض، والداخلة على الماضي للتوبيخ، والمراد هنا تحضيض الذين يقتدي بهم أفناؤهم، ويعلمون قباحة ما هم فيه وسوء مغبته على نهي أسافلهم. {عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت} مع علمهم بقبحهما واطلاعهم على مباشرتهم لهما، وفي البحر إن هذا التحضيض يتضمن توبيخهم على السكوت وترك النهي.
{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} الكلام فيه كالكلام السابق في نظيره خلا أن هذا أبلغ مما تقدم في حق العامة لما تقرر في اللغة والاستعمال أن الفعل ما صدر عن الحيوان مطلقًا، فإن كان عن قصد سمي عملًا ثم إن حصل زاولة وتكرر حتى رسخ وصار ملكة له سمي صنعًا وصنعة وصناعة، فلذا كان الصنع أبلغ لاقتضائه الرسوخ، ولذا يقال للحاذق: صانع، وللثوب الجيد النسج: صنيع كما قاله الراغب ففي الآية إشارة إلى أن ترك النهي أقبح من الارتكاب، ووجهه بأن المرتكب له في المعصية لذة وقضاء وطر بخلاف المقر له، ولذا ورد إن جرم الديوث أعظم من الزانيين.
واستشكل ذلك بأنه يلزم عليه أن ترك النهي عن الزنا والقتل أشد إثمًا منهما وهو بعيد، وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون إثم ترك النهي ممن يؤثر نهيه كف المنهي عن فعل المنهي عنه أشد من إثم المرتكب كيفما كان مرتكبه قتلًا أو زنًا أو غيرهما، وقال الشهاب: إن قيد الأشدية يختلف بالاعتبار، فكونه أشد باعتبار ارتكاب ما لا فائدة له فيه لا ينافي كون المباشرة أكثر إثمًا منه فتأمل، وفي الآية مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات ما لا يخفى، ومن هنا قال الضحاك: ما أخوفني من هذه الآية، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية، وقرئ {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم العدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون}.

.تفسير الآية رقم (64):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بما قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}
{وَقَالَتِ اليهود} عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعكرمة والضحاك قالوا: إن الله تعالى قد بسط لليهود الرزق فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كف عنهم ما كان بسط لهم، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء رأس يهود قينقاع، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما النباش بن قيس {يَدُ الله} عز وجل: {مَغْلُولَةً} وحيث لم ينكر على القائل الآخرون ورضوا به نسبت تلك العظيمة إلى الكل، ولذلك نظائر تقدم كثير منها، وأرادوا بذلك لعنهم الله تعالى أنه سبحانه ممسك ما عنده بخيل به تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا فإن كلًا من غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، أو كناية عن ذلك، وقد استعمل حيث لا تصح يد كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل ** شكرت نداه تلاعه ووهاده

ولقد جعلوا للشمال يدًا كما في قوله:
أضل صواره وتضيفته ** نطوف أمرها بيد الشمال

وقول لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقرة ** إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

ويقال: بسط اليأس كفيه في صدر فلان، فيجعل لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان، قال الشاعر:
وقد رابني وهن المنى وانقباضها ** وبسط جديد اليأس كفيه في صدري

وقيل: معناه إنه سبحانه فقير، كقوله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181]، وقيل: اليد هنا عنى النعمة أي إن نعمته مقبوضة عنا، وعن الحسن أن المعنى أن يد الله تعالى مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل، وكأنه حمل اليد على القدرة، والغل على عدم التعلق. وقيل: لا يبعد أن يقصدوا اليد الجارحة فانهم مجسمة، وقد حكي عنهم أنهم زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية قاعد على كرسي، وأنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة واستلقى على ظهره واضعًا إحدى رجليه على الأخرى وإحدى يديه على صدره للاستراحة مما عراه من النصب في خلق ذلك تعالى الله سبحانه عما يقولون علوًا كبيرًا.
والأقوال كلها كما ترى، وكل العجب من الحسن رضي الله تعالى عنه من قوم ذلك وليته لم يقل غير الحسن، ولعل نسبته إليه غير صحيحة، والذي تقتضيه البلاغة ويشهد له مساق الكلام القول الأول، ولا يبعد من قول قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام {اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} [الأعراف: 138] وعبدوا العجل أن يعتقدوا اتصاف الله عز وجل بالبخل ويقولوا ما قالوا، وقال أبو القاسم البلخي: يجوز أن يكون اليهود قالوا قولًا واعتقدوا مذهبًا يؤدي معناه إلى أن الله تعالى عز شأنه يبخل في حال ويجود في حال آخر، فحكى عنهم على وجه التعجب منهم والتكذيب لهم.
وقال آخر: إنهم قالوا ذلك على وجه الهزء حيث لم يوسع سبحانه على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى أصحابه؛ ولا يخفى أن ما روي في سبب النزول لا يساعد ذلك، وقيل: إنهم قالوا ذلك على سبيل الاستفهام والاستغراب، والمراد يد الله سبحانه مغلولة عنا حيث قتر المعيشة علينا، ولا يخفي بعده.
{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بالبخل المذموم كما قال الزجاج ودعاؤه بذلك عبارة عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم، ولا استحالة في ذلك على مذهب أهل الحق، ويجوز أن يكون دعاء عليهم بالفقر والمسكنة، وقيل: تغل الأيدي حقيقة، يغلون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم، ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقط فيكون تجنيسًا، وقيل: هي من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول: سبني سب الله تعالى دابره، أي قطعه لأن السب أصله القطع، وإلى هذا ذهب الزمخشري، واستطيبه الطيبي، وقال: إن هذه مشاكلة لطيفة بخلاف قوله:
قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه ** قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

واختار أبو علي الجبائي أن ذلك إخبار عن حالهم يوم القيامة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم في جهنم جزاء هذه الكلمة العظيمة، وحكاه الطبرسي عن الحسن، ثم قال: فعلى هذا يكون الكلام بتقدير الفاء أو الواو، فقد تم كلامهم واستؤنف بعده كلام آخر، ومن عادتهم أن يحذفوا فيما يجري هذا المجرى، ومن ذلك قوله: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67]، وأنت تعلم أن مثل هذا على الاستئناف البياني، ولا حاجة فيه إلى تجشم مؤونة التقدير، على أن كلام الحسن فيما نرى ليس نصًا في كون الجملة إخبارية إذ قصارى ما قال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} في جهنم وهو محتمل لأن يكون دعاء عليهم بذلك.
{وَلُعِنُواْ} أي أبعدوا عن رحمة الله تعالى وثوابه {ا قَالُواْ} أي بسبب قولهم، أو بالذي قالوه من ذلك القول الشنيع، وهذا دعاء ثان معطوف على الدعاء الأول، والقائل بخبريته قائل بخيريته، وقرئ {وَلُعِنُواْ} بسكون العين.
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} عطف على مقدر يقتضيه المقام أي كلا ليس الشأن كما زعموا بل في غاية ما يكون من الجود، وإليه كما قيل أشير بتثنية اليد، فإن أقصى ما تنتهي إليه همم الأسخياء أن يعطوا بكلتا يديهم، وقيل: اليد هنا أيضًا عنى النعمة، وأريد بالتثنية نعم الدنيا ونعم الآخرة، أو النعم الظاهرة والنعم الباطنة أو ما يعطى للاستدراج وما يعطى للإكرام، وقيل: وروي عن الحسن أنها عنى القدرة كاليد الأولى، وتثنيتها باعتبار تعلقها بالثواب وتعلقها بالعقاب، وقيل: المراد من التثنية: التكثير كما في {ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] والمراد من التكثير: مجرد المبالغة في كمال القدرة وسعتها لا أنها متعددة، ونظير ذلك قول الشاعر:
فسرت أسرة طرتيه فغورت ** في الخصر منه وأنجدت في نجده

فإنه لم يرد أن لذلك الرشا طرتين إذ ليس للإنسان إلا طرة واحدة وإنما أراد المبالغة. وقال سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم: إن هذا من المتشابه، وتفويض تأويله إلى الله تعالى هو الأسلم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أثبت لله عز وجل يدين، وقال: «وكلتا يديه يمين» ولم يرو عن أحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم أنه أول ذلك بالنعمة، أو بالقدرة بل أبقوها كما وردت وسكتوا، ولئن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب لاسيما في مثل هذه المواطن، وفي مصحف عبد الله بل يداه بسطان يقال: يد بسط بالمعروف، ونحوه مشية سجح وناقة سرح.
{يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده سبحانه لما فيها من الدلالة على تعميم الأحوال المستفاد من كيف وفيها تنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على كلمة ملأ الفضاء قبحها، والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم الدقيقة التي عليها تدور أفلاك المعاش والمعاد، وقد اقتضت الحكمة إذ كفروا بآيات الله تعالى وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يضيق عليهم، و{كَيْفَ} ظرف ليشاء والجملة في موضع نصب على الحالية من ضمير {يُنفِقُ} أي ينفق كائنا على أي حال يشاء أي على مشيئته أي مريدًا، وقيل: إن جملة {يُنفِقُ} في موضع الحال من الضمير المجرور في {يَدَاهُ} واعترض بأن فيه الفصل بالخبر وبأنه مضاف إليه، والحال لا يجيء منه، وردّ بأن الفصل بين الحال وذيها ليس متنع كما في قوله تعالى حكاية: {هذا بَعْلِى شَيْخًا} [هود: 72] إذ قيل: إن شيخًا حال من اسم الإشارة، والعامل فيه التنبيه، وأن الممنوع مجيء الحال من المضاف إليه إذا لم يكن جزءًا أو كجزء أو عاملًا، وههنا المضاف جزء من المضاف إليه، أو كجزء فليس متنع، وجوّز أن تكون في موضع الحال من اليدين أو من ضميرهما، ورد بأنه لاضمير لهما فيها، وأجيب بأنه لا مانع من تقدير ضمير لهما أن ينفق بهما، ومن هنا قيل: بجواز كونها خبرًا ثانيًا للمبتدأ، نعم التقدير خلاف الأصل والظاهر، وهو إنما يقتضي المرجوحية لا الامتناع، وترك سبحانه ذكر ما ينفقه لقصد التعميم.
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مّنْهُم} وهم علماؤهم ورؤساؤهم، أو المقيمون على الكفر منهم مطلقًا {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن المشتمل على هذه الآيات، وتقديم المفعول للاعتناء به {مِن رَبّكَ} متعلق بأنزل كما أن إليك كذلك، وتأخيره عنه مع أن حق المبدأ أن يقدم على المنتهي لاقتضاء المقام كما قال شيخ الإسلام الاهتمام ببيان المنتهى لأن مدار الزيادة هو النزول إليه صلى الله عليه وسلم، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من التشريف، والموصول فاعل ليزيدنّ والاسناد مجازي، و{كَثِيرًا} مفعوله الأول، و{مِنْهُمْ} صفته.
وقوله تعالى: {طغيانا وَكُفْرًا} مفعوله الثاني أي ليزيدنهم طغيانًا على طغيانهم وكفرًا على كفرهم القديمين، لأن الزيادة تقتضي وجود المزيد عليه قبلها، وهذه الزيادة إما من حيث الشدة والغلو، وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار، وهذا كما أن الطعام الصالح للأصحاء يزيد المرض مرضًا، ويحتمل أن يراد بما أنزل النعم التي منحها الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أي أنهم كفروا وتمادوا على الكفر وقالوا ما قالوا حيث ضيق الله تعالى عليهم وكف عنهم ما بسط لهم، فمتى رأوا مع ذلك بسط نعمائه وتواتر آلائه على نبيه صلى الله عليه وسلم الذي هو أعدى أعدائهم ازدادوا غيظًا وحنقًا على ربهم سبحانه، فضموا إلى طغيانهم الأول طغيانًا وإلى كفرهم كفرًا وحينئذ تلائم الآية ما قبلها أشد ملائمة إلا أن ذلك لا يخلو عن بعد، ولم أر من ذكره.
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} أي اليهود. وقال في البحر: الضمير لليهود والنصارى لأنه قد جرى ذكرهم في قوله سبحانه: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى} [المائدة: 51] ولشمول قوله عز وجل: {يا أَهْلِ الكتاب} [المائدة: 59] للفريقين، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد. {العداوة والبغضاء} فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولا تتحد كلمتهم، فمن اليهود جبرية ومنهم قدرية ومنهم مرجئة ومنهم مشبهة، والعداوة والبغضاء بين فرقة وفرقة قائمتان على ساق، وكذا من النصارى الملكانية واليعقوبية والنسطورية، وحالهم حالهم في ذلك، وحال اليهود مع النصارى أظهر من أن تخفى، ورجح عود الضمير إلى اليهود بأن الكلام فيهم، وفائدة هذا الإخبار هنا إزاحة ما عسى أن يتوهم من ذكر طغيانهن وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين، وقال أبو حيان في البحر بعد أن أرجع الضمير للطائفتين: إن المعنى لا يزال اليهود والنصارى متباغضين متعادين قلما توافق إحدى الطائفتين الأخرى، ولا تجتمعان على قتالك وحربك، وفي ذلك إخبار بالغيب فإنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيش يهود ونصارى منذ سل سيف الإسلام.
وفرق السمين بين العداوة والبعضاء بأن العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو {إلى يَوْمِ القيامة} متعلق بألقينا وجوز أن يتعلق بالبغضاء أي إن التباغض بينهم مستمر ما داموا، وليست حقيقة الغاية مرادة، ولم يجوز أن يتعلق بالعداوة لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي.
{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلة ما هم فيه إلى المسلمين، والمراد كلما أرادوا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ورتبوا مباديها ردّهم الله تعالى وقهرهم بتفرق آرائهم وحل عزائمهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب، وقد كانت العرب إذا تواعدت للقتال جعلوا علامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة ويسمونها نار الحرب، وهي إحدى نيران مشهورة عندهم، وإطفاؤها عبارة عن دفع شرهم، وحكى في البحر قولين في الآية: «فعن قوم أن الإيقاد حقيقة، وكذا الإطفاء أي أنهم كلما أوقدوا نارًا للمحاربة ألقى عليهم الرعب فتقاعدوا وأطفأوها، وإضافة الإطفاء إليه تعالى إضافة المسبب إلى السبب الأصلي. وعن الجمهور إن الكلام مخرّج مخرج الاستعارة، والمراد من إيقاد النار: إظهار الكيد بالمؤمنين الشبيه بالنار في الإضرار، ومن إطفائها صرف ذلك عن المؤمنين، ولعل القول بالكناية ألطف منهما، وكون المراد من الحرب محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم هو المروي عن الحسن ومجاهد، وقيل: هو أعم من ذلك أي كلما أرادوا حرب أحد غلبوا، فإن اليهود لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط سبحانه عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط جل شأنه عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم عز وجل رسوله عليه الصلاة والسلام»، فأباد خضراءهم. واستأصل شأفتهم وفرق جمعهم وأذلهم فأجلى بني النضير وبني قينقاع، وقتل بني قريظة وأسر أهل خيبر، وغلب على فدك، ودان له أهل وادي القرى، وضرب على أهل الذمة الجزية وأبقاهم الله تعالى في ذل لا يعزون بعده أبدًا، وإطفاء النار على هذا عبارة عن الغلبة عليهم قاتلهم الله تعالى، و{لّلْحَرْبِ} متعلق بأوقدوا واللام للتعليل، أو متعلق حذوف وقع صفة لنار، وهو الأوفق بالتسمية.
{وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَادًا} أي يجتهدون في الكيد للاسلام وأهله وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم مما يغاير ما عبر عنه بإيقاد نار الحرب؛ كتغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم وإدخال الشبه على ضعفاء المسلمين والمشي بالنميمة مع الافتراء ونحو ذلك، و{فَسَادًا} إما مفعول له، وعليه اقتصر أبو البقاء، أو في موضع المصدر، أو حال من ضمير {يَسْعَوْنَ} أي يسعون للفساد، أو سعي فساد أو مفسدين. {والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} بل يبغضهم، ولذلك أطفأ نائرة فسادهم، واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولًا أوليًا، وإما للعهد، ووضع المظهر موضع ضميرهم للتعليل وبيان كونهم راسخين في الإفساد. والجملة ابتدائية مسوقة لإزاحة ما عسى أن يتوهم من تأثير اجتهادهم شيئًا من الضرر، وجعلها بعضهم في موضع الحال، وفائدتها مزيد تقبيح حالهم وتفظيع شأنهم.